BLOGGER TEMPLATES - TWITTER BACKGROUNDS »

الأربعاء، 25 نوفمبر 2009

قراءة نقدية في نصّ كظلّ ٍ ملوّن لـ أ. عبدالجبار علي حسن




قراءة نقدية في نصّ كظلّ ٍ ملوّن لـ أ. عبدالجبار علي حسن

اختصاصي موهبة في مركز الموهوبين بالمحرق ..


في عام 1961 طرح ( واين بوث ) الناقد الأمريكي مفهوم ( المؤلف الضمني ) وذلك ضمن ما يُعرف ب ( نظرية التلقي ) ، وقد طرح واين هذا المفهوم في اشتغاله أو تحليله للبنيات السردية ذات الصلة بالقارئ، فماذا وجد ؟ وجد أن :" المؤلف الحقيقي قد حطّ من شأنه اعتباره جزءاً من العمل الأدبي ، .. فالمؤلف الضمني هو بناء نص يخلقه المؤلف الحقيقي ليُصبح صورته، لكن آراءه لا تتطابق مع آراء ( المؤلف الضمني ). وهكذا في كل عمل سردي ( مؤلف ضمني ) مخبوء يوزع صوته وأفكاره على شخصيات ( قصته ) ؛ ليخلق إيهاما بأن وجهة نظره تتوفر على أساس موضوعي .." **في نصك هذا ، تتحول النظرية إلى تطبيق ، ويكون للمتلقي من أمثالي أن يشكرك عليه ، لماذا ؟ نحن أمام ناقد ك " بوث " أو غيره ، لا نملك إلا أن نتهم أنفسنا بالعجز عن فهم ما يقولون أحيانا، قد نعزو هذا العجز تارة لأنفسنا ، وقد نعزوه تارة إلى تعاليهم وفوقيتهم فيما عُرف بنقد " النخبة " . في هذا النص كنت أبحث عن تطبيق أوالي لمفردات ذلك المفهوم ، كيف يكون للنص قارئ ضمني ، وبالتالي يكون له مؤلف ضمني؟ ألم يكن هذا النص قد كُتب بضميرين؟ ضمير " حضور " وضمير " غياب " ؟ هذا في مستوى الارتحال لما وراء لا لما أمام ."من هنا يُصبحُ فعلُ القراءة فعلا إبداعيا يوازي إبداع النص نفسه ، فكانت النتيجة ظهور ما يُعرف بالقارئ المضمر أو المرتقب الذي يضعه الكاتب في اعتباره أثناء الكتابة". **إذا ما قمنا بالربط بين " سلوك " الكاتبة هنا ، و " سلوكها " في نص " قلق المشيئة " ، نجد أن ثمة بصمات واضحة باتت تشير إليها في كل اشتغال سردي تقترفه . ألخصها وذلك في محاولة لخلق قراءة لا أقول بأنها " تضيئ " النص ، فمعنى أن نقول بأننا نمارس فعل " الإضاءة " فذلك يعني أن ثمة " عتمة " في النص ، وهذا ما لا يجب أن يقوم به متلقٍ يبحث عن حالة " إعادة انتاج " للنص ، ليجعل منه " امتدادا" حقيقيا لسيرورة الفعل الإبداعي ذاته . وإنما هي قراءة تطمح لتثبيت خارطة البحث عن طريقة هذا الاشتغال ، وإحضاره إلى منطقة الرؤية ، ليقوم بتسليط مزيد من الضوء عليه . في قراءة ربما لا تكفي لذلك فمجرد اعتماد القارئ على نصين لكاتب واحد ، لا يعطيه " الكفاية " النقدية في تحديد " هوية " هذا الاشتغال ضمن مجموعة الأنساق البنائية والفنية التي يتربص بها الكاتب لنصوصه ، إنها حالة " تجلية " قد تحول هذا المتلقي من قارئ سلبي قد يسيء القراءة ، إلى قارئ مشارك في خلق هذا النص . تشتغل الكاتبة في مدارين رئيسيين : الأول: مدار الجُملة . الثاني : مدار النسق البنائي الممتد داخل النص لا خارجه. في المدار الأول، يمكن لنا أن نقول إن الكاتبة هنا تخلق لغتها بهالة من الخصوصية المتفردة ، تختارها من بين مناطق اللاحياد ، تكسّر مألوفها، تختبرها كثيرا ، لكأنك تقرأ في كل مرة تلج فيها النص " مسوّدة " نص . لتجد أن ثمة همٍّ " جمالي " يقلقها ، إنها لا تقنع بما تكتب ، تشعر وانت تقرأ بأنك وقعت ضحية عسر ولادة ، يكون فيها المشطوب أكثر بكثير من غير المشطوب، رغم ما في هذا الكلام من غرابة ، إذ يقول قائل : ألا تنظر إلى هذه اللغة المبتسرة كيف تقوم بترهيل النص ؟ أقول له ، هي نوع من الابتسار الواعي ، الذي يسير في إيقاع واحد مع طبيعة الفكرة التي تسيطر على الكابتة ، إنها في بحث دؤوب عن " الذات " وطبيعة هذا البحث ألا يقنع بما هو منطوق. في ضمن هذا الاشتغال اللفوي تصدمك الكاتبة باستخداماتها التي تجعلك تقف أمامها لتكتشف أن مسألة الكتابة ليست تقنع أبدا بما هو " متداول " إن الكتابة تحب أن تدخل معنا في عملية " تخصيب " تغير سنن الخلق . إنها عملية تشويش منظم ، يشبه تماما ما نفعله عندما نقرر أن نهدم بيتا ، لا لنرممّه ، بل لنعيد بناءه بشكل أفضل ، وأكثر قدرة على البقاء.أعطيكم مثالا : "ترسم الليلك بالرصاص " و " لِمَ أراني بوصلة تفضحها كل الاتجاهات وتشير إليها كل المسالك" وغيرها ، هي لعبة اللغة إذن ، حينما تجعلك تتوقف قليلا قبل ان تمد عينيك إلى ما سيُمتعك أكثر . إنها الرغبة الملحة في كشف مواطن الفتنة، وإجبارك على ارتكاب خطيئة قد تحمد " الخالق "/ الكاتب ، عليها . أما في المدار الثاني ، فللكاتبة نوع هنا يشبه تماما وينطبق تماما على ما نقلته من كلام " واين " فهي تقوم بتحويلك عبر ( مؤلفها ضمني ) إلى " ما يُعرف بالقارئ المضمر أو المرتقب الذي يضعه الكاتب في اعتباره أثناء الكتابة". وذلك من خلال عملية تتخطى حدود المطابقة ، لتصل إلى حدود " التماهي " بين البطل / الراوي ، والبطل المفترض ، وصولا إلى " معادله الموضوعي " الذي يختبئ فيها . ربما لا نقع هنا على رؤية ما ، ولكنننا بالتأكيد نقع على طريقة رؤية ، بين كاتب يلقمك رؤيته ، وآخر يجعلك ترى أنت ما تريد فرق كبير ، وكبيرٌ جدا .. ** التلقي والتأويل، محمد عزام ، ص 89 .** المصدر نفسه. أمينة آل عيد .. هي البدايات تصنعنا ، وليس النهايات .. نص جميل ويستحق كل تقدير واحترام .. تمنياتي لك بكل التوفيق .. وإلى نص منتظر قد يعجّل لك القلم ولادته .. تحياتي لك وللجميع ..

الثلاثاء، 24 نوفمبر 2009

كظلّ ٍ ملوّن


كظلّ ٍ ملوّن
ومرّةً ،
ساقني خلفه ، تأبطني حباً ، وقومعني في ذاته حتى لامست إنسانيني فوضويته المهترئة ، أراه نازعاً فارغاً من كل شيء ، إلا من نفسه وحينما أدرك أنه لا يدرك ، لملم ضرورياته بطول شاربيه وعلّقها على مشجب قريب من مرآه وغادر. للظنون رؤؤس معلّقة في السديم، ترسم الليلك بالرصاص ، تدوّر الزوايا كخيوط عنكبوت معلّق على جدران الذات ، كل المرايا تهمز وتلمز من حوله بأفواه صامتة ، تكسر المجازات وترقى فوق رفات تغفو على كتف ظل زيتونة عارية، وكل القلوب تتطاول محاسنه وأنا من بين هذا وذاك كارتعاشة غيمة في بداية المخاض، تتبوَّأ لها مقعداً في جنة الله وأرض حبه. خاوٍ هو و وحيدٌ، ممنوعٌ حتى من اللمس إلا من تلك اليد التي انتزعته من غيهب ميت لتزرعه بين موتٍ ما وميلادٍ جديد، بعيدٌ هو عن عين الرائي ليس ثمة صحبة تصافح وحدته سوى الشمس والحكايات والقدر. من العدم، امتدت خمسة أنهر رشيقة تبتدئ من نهاية بحيرة أدمه مروراً بجبل مستقيم، وراحت تنقب في الحيّز العبثي عن شيئاً اسمه إزار الأنا، نفضت فيه أول نفخة للروح تبعتها شهقة حسرى، هدت من حوله أركان الذوات وانثنت! لوجهه.. بحيرتان من لوعة، تفقس منها طقوس رمادية، تحلم بنصف جفن ووجع، ولصبابته.. حضن يتيم يرسم لتفاصيل هندامه مسافات قبور جائعة، تعتصره بألف لعنة وحسرة، وهو من بين هذا وذاك، يعلم أنه يعلم، ولكنه غارق في سفسطة ذاته الملونة، بعيداً عن عين الشمس التي تعتمر ظلاله متكأً لألوانه السبعة.قرأت الشمس ماذا ينقصني، جست الروح، الجسد والإنسان، وأحصت الثقوب التي شحَّ ضوؤها عن ملئها في داخلي، والفراغاتِ التي أحدثتها لعنات ثلاثين سنة عجاف، من بعد ما دفن حظي وجهه في الأرض كـالنعامة، وفتح مصارعيه معمورية تحيز الأضواء عني بانعكاسه بسبع لعنات تقرؤها ملامح مستقيمة تمتدّ من تحتي بوجوه عدّة، وتؤولها إلى تصريف أفعالٍ جامدة، تنهك اللغة وتبعثرها في فضاء مزروع في بتلة عقيمة، لا تطالها أيدي الملائكة. كم توجعنا الشمس! ولاسيما معي أنا، ثمة شيء يخالط هذهِ الامتدادات الضوئية التي تصل إلينا من زهرة عين تترقبنا بالمرصاد، وتنفض من مساماتنا سموماً عالقة بكاهل الروح، تلطف من درجة الإنسانية وقد تزيدها ملوحة و تلويناً، لِمَ أراني بوصلة تفضحها كل الاتجاهات وتشير إليها كل المسالك، لِمَ أراني بأكثر من أنا حين أفضح للشمس رغباتي وأقول لها أنا ثم أنا ثم أنا! أنا خطأ يحتمل الصواب، وصواب يتأرجح على لوحة ألوان خرساء، تقرأ اللون وتكتم اللغة، تصرخ وتبعثر وتهدد بالوعيد وتعفو عند المقدرة، تزمجر وتعوي عند الغروب، ترتدي ملاءة سوداء كجبل يحمل في جوفه صمتاً شاهقاً، وتعاريف أغريقية قديمة تتكئ في انحناءاتها ذاكرة الإنسان الأول، وتتعرج في خطاها حوادث مستقبلية خاوية، تنبئ عن علامات مالا يسألون، وتبشر عن الغيث و الغيّ والفيء والألوان. وطنّت ظلّي متكأً لألوان سبعة، تشاكسني وتزاحمني على نفسي ونفسي، تتعلق على رأسي، للتقازم أمامها ذاتي كمومس صغيرة، تفتعل تعطش الغرائز الإنسانية، وتتحلق على ذاتي كقوس مدوّر، يحمل في لجّه سبعة ألوان وسبع لعنات، وسبعة وجوه، وسبعة مدارك واشية! هو ذا أنا، نعم هذا أنا ثم أنا وأنا. أعلق أحلامي على نصل سقط سهواً من أساطير الأولين، وفي كل مرة أتفاوض معي، أستلّ معادلاتي من قشة مزقتها شظايا لعنات ثلاثين سنة عجاف، وبعضي لا يوافق كلي، وهكذا أراني أتكرر، أشعل أصابعي الخمسة دهشة سؤال يقرقع أوساط خمسة أنهر رشيقة، وفي كل سؤال تحذرني السبابة توجساً بينما توافقني الإبهام بشدة لاذعة، تذبذب كياني، وتزرعني في جورية غيم ملونة أو في فقاعة روحٍ زجاجية تتناسل فيها ذرات خاملة، تأكل لتتلوّن، وتتلوّن لتعيش! كظلّ ٍ ملوّن، ينتحب في حشرجات الظنون، ويتلوى كأفعى على رمضاء تلذعها الشمس بغربلتها. يحمل في ألوانه تفسيرات العقم العبثي، عقمٌ يولد من فم خليقة عرجاء الخطى، تستقر على شاطىء إنسانية أهوج أعوج، مكسور الخاطر، لا قعر له ولا مرسى. في الطرق، يسير الإسفلت على وجهي، وتبصقني المصابيح بوحشية تحسر الألوهية من جفني إلى الأبد، هل أصرخ، وأعتمر قلنسوة القاضي، وزهرة الشمس، وأفضح للملأ رغباتي؟ هل أكشف عن ألواني السبعة، وأنا لم أحلم يوماً بالشمس والقمر وإحدى عشر كوكباً؟ عقيمةٌ هذهِ الزجاجة التي أحتويها في داخلي، تستلّ اللون من العمق، فيستلّها وجع التلّون، ما لهذهِ الزجاجة لا تتلوّن إلا لـتقبض على غيابي؟، وأنا ما أنا، سوى قطرة تنساب في رحم سنبلة عقيم؟! أذكره يوماً، عندما وقف قبالتي، وبحث عن نفسه ولم يجدها إلاّ عندما غادرته، نعم وجدها فيَّ، وجدها في تحدبي وتقعريّ، وجدها في ثياب المسافرين ووجوه المرضى، وجدها في الاسطوانات الخشبية وصناديق الموسيقى، وجدها في جحور الحرباء وأعشاش الخفافيش!وجدها في لوحة إنسانيته الخرساء، وقرأها ورتلها ولم يفهمها لأن فهمها كفر، وترديدها صلاة.. ثم تركني لأصمت كنقطة عارية لا يأتي بعدها الكلام!

عن القلق والمشيئة !

[COLOR="red"][U]ـ قد يسأل البعض : وأيّ فضل للناقد إذا كانت مهتمه لا تتعدى الغربلة ؟ فهو لاينظم قصيدة بل يقول عن القصيدة الحسنة إنّها حسنة . وعن القبيحة إنّها قبيحة . ولا يؤلف رواية . بل ينظر في رواية ألفها سواه ويغربلها ! وعلى الشاكلة نفسها ، أيّ فضل للصائغ الذي تعرض عليه قطعتين من المعدن متشابهتين . فيقول في الواحدة إنّها ذهب ، وفي الأخرى إنهّا نحاس ؟ ـ [/U][/COLOR]
[QUOTE=عبدالجبار علي;116258]
إن موقف الكاتبة من عالمها الخارجي هو ما استطاعت أن تجعله عالما داخليا من خلال عمليات استنزاف لطاقات " المونولوج " الواعي إن صحت الكلمة ، لذا وجب علينا كمتلقين أن نقرأ النص بصيغة إدماجية بين العالمين، ربما نصل إلى حقيقة التوتر التي انشحن بها هذا البطل المتشظي في الصورة واللغة.
إن ما يجعل لهذا النص مكانا فريدا بين سنن الكتابة أنه استطاع أن يجعل من عبثية الشكل نظاما خاصا، أوجدته الكاتبة عبر أنساق لغوية ، وإن كانت مسرفة أو متناصة ، فهي تمثل اللعبة الأساس التي تمكنت من تعرية كل أفكار أبطالها المتخيليين أو الحقيقيين، وقبل ذلك هي كانت في مهمة شاقة مع تعرية الصورة وبث الصوت فيها ، بطريقة تجعلنا نرى ما لا تراه ..
كل الشكر والتقدير للكاتبة على مشاركتها القيمة في هذه المسابقة ، ولكل من يعبرون هنا ..
تحياتي لكم جميعا ..
عبدالجبار علي ..
[/QUOTE]


يا أيها الكائن المتوشح بلذة النقد . ترى كيف قرأتني وأنا إلى الأن لم أكتبني ؟ :sniff:[COLOR="red"][U]ـ هو مبدع عندما يرفع النقاب في أثر ينقده عن جوهر لم يهتد إليه أحد . حتى صاحب الأثر نفسه . [/U][/COLOR]
كيف حللت نصّ لا يحتمل التآويل في حين عجز الآخرين عن فهمه وأستدراكه ؟
[COLOR="red"][U]ـ لم يكن للناقد من فضل سوى فضل رد الأمور إلى مصادرها وتسميتها بأسمائها لكفاه ذاك ثواباً . إلا أن فضل الناقد لاينحصر في التمحيص والتثمين والتركيب ، فهو مبدع ومولّد ومرشد مثلما هو ممحّص ومثمّن ومرتّب . [/U][/COLOR]
[QUOTE=أمينة الحماقي;94366]
هل للنص علاقة بمحتوى الفلم ؟
اما أني لم أفهم فكرة الفلم أو فكرة النص ؟!!
[/QUOTE]
[QUOTE=ثواب الشهابي;95297]
أعجبني تعدد الصور
جميل الأسلوب
لكنني لم أفهم الفيلم و علاقته بالنص :smile:
[/QUOTE]
[QUOTE=عبد الإله يوسف;95302]
مش فاهم حاجة أبدا لا الفيلم ولا النص
[/QUOTE]


[COLOR="Red"][U]ـ كم من شاعر سخر منه الناس حتى كادوا يقتلون كل موهبة فيه . إلى أن أتاه ناقد أظهر للناس مواهب فيه ثمينة ، وودائع نفيسة . فانقلب سخرهم تكريماً وتهليلاً ! مثل هذا الكاتب والشاعر هما هدية الناقد إلى الأمة والبشرية . ـ [/U][/COLOR]
ترى ، هل تنبأ ميخائيل نُعيمه بناقد مثلك يشعل في سطوره أرواحاً وألسنة من عواطف الكاتب ، هل كانت أثاري الأدبية خالدة لاتموت .. لأن الميت لا يعيش .. ولايخلد من الأثار إلاّ ماكان فيه بعض من الروح الخالدة .. ولهذا .. هي [U]لم تمت[/U] .. إلى الأن !
ـ شرف الكتاب المبتدأين أمثالي ، أنهم أبداً يشاطرون العالم اكتشافاتهم في عوالم نفوسهم ، حتى إذا ماوجد أخر بعض من نفسه في تلك الأكتشافات كان في ذلك للأديب سلوى لذيذة ، وتعزية طيبة وأكبر ثواب . إذن فالأدب الذي هو أدب ، ليس إلاّ رسولاً بين نفس الكاتب ونفس سواه . والأديب الذي يستحق أن يدعى أديباً هو من يزود رسوله من قلبه وعقله . ترى هل كنت أنا كذلك ، و هل كانت رابطتي القلمية زوادةً كلاميّة طيبة المثوى ؟
[COLOR="Blue"]شكراً لك أ. عبدالجبار علي حسن شكراً متكأ .. شكراً كأنك الحياة ولأنك ماءفأنا كل شي حي . [/COLOR]
[COLOR="red"][U]ـ بتصّرف أمينة آل عيد من كتاب الغربال لميخائيل نُعيمه ـ [/U][/COLOR]

قراءة نقدية في نصّ قلق المشيئة بقلم أ. عبدالجبار علي حسن

قراءة نقدية في نصّ قلق المشيئة بقلم أ. عبدالجبار علي حسن أخصائي موهبة أدبية في مركز الموهوبين في المحرق
أ. عبدالجبار علي حسن





في هذ النص نستشرفُ رغبةً كبيرةً في توسيع دلالات السياق ، هذا التوسيع الذي يجعلُ السياق منفتحاً على جميع الأحداث المتزامنة، وعلى كل المعاني الحاضرة والغائبة التي تشكل في النهاية لحظة فاصلة. هذا ما تقول به النظرية السياقية في المعنى ( The context theorem of meaning ) : وهي ترى في المعنى ضرورة توقع الغموض ( Ambiguity ) في أحاديثنا ونصوصنا . وإلى جانب هذا الغموض يوجد " الاختزال " ( Abridjment ) ، أي أن اللفظة الواحدة لها قوة اختزال معان كثيرة وفقرات يمكن الاستغناء عنها وعدم تكرارها. وهذا ما لم توفق إليه الكاتبة في هذا النص بشكل واضح. فهي لم تقم بإحضار كل الأجزاء التي كان ضروريا أن تغيب عن السياق ، والعكس. إن ما قامت به الكاتبة كان عملية تركيز على استثمار إمكانات العقل الإنساني في التفسير ، وعلى إيثار الخيال والبحث في الصور التي تستحث الدهشة والغرابة بدلا من التركيز على وضوح المعاني والدلالات المباشرة. إن قدرات العقل تتمثل في عملية الربط بين الأشياء التي تفاجؤنا باعتباطيتها. وهذا ما فعلته الكاتبة . إنها تعوّل كثيرا على قدرة القارئ في التخمين من أجل استقصاء المعنى، لتعطل قدرته على المعرفة السابقة للأشياء. لذا وجد الكثيرون في هذا النص كثيرا من الصعوبة في الوصول إلى مناطق " التنوّء" أي مناطق تكوين الأنوية التي تشكل مركز النص. إنها تريد أن تلغي داخل تشكيل لغتها كل محاولة للتوقع، توقع ما ستقول ، كما نحن نعرفها . في كتاب للناقد I.A.Rechards ( كيف تقرأ صفحة ) " How to read a page " 1938" يقول: " في كل القراءات يجب أن يتم التخلي عن شيء، وإلا فلن نصل إلى معنى ...... ومن خلال الإغفال يصبح ما نريد فهمه هو ما هو موجود لنصل إلى كينونته الأساسية " المرايا المحدبة- عالم المعرفة 232 ص 312. ترى وأنا أقرأ هذا النص ، ما يكون ذلك الشيء الذي تخليت عنه؟ وأي شيء منه جعلني أصل إلى كينونة ما قيل فيه" ؟ لقد تخليت عن كل الأنظمة التي كان علي توقعها من كاتبة تكتب قصة قصيرة. جعلني نمط النص ألا أبحث في نظامها الداخلي، بقدر ما جعلني أبحث عن عالمها الداخلي، لم أبحث في أنساق الوظائف والتقنيات المتواشجة مع نظامها الخارجي، إنها خطيئة كبيرة أن تضع مسطرة قوانين اشتغالك على نص لتجبره على موافقتك أو عدم موافقتك له . في هذا النص تجاوز لحدود النمط ، وقد استطاعت الكاتبة عبر عمليات " التجاور " النصي أن تقنن عملية التشويش التي يعرفها البنيويون كنظام . إنها العملية التي تجعل المتلقي يعزف عن خواص التوقع لما ينتظره من النص. هذا بالطبع في وضع القصة التي تسير وفق خطية ثابتة ، تبدأ شرارة وتنتهي بانطفائها أو بإحراق كل شيء، فكيف بنا أمام نص يسبح في عالم هلامي يتكئ على صنوف من الانكسارات داخل لغته من جهة وأخرى داخل عقل الشخصية نفسها. أليس محاولة تفسير ما يحدث هو بداية " لسوء قراءة " ؟ النص هذا بصراحة ينغلق منفتحا ، وينفتح منغلقا ، ينغلق بانفتاحه على رؤية تشكل عالم البطل بشيء من " الحتمي " والقدري ، وينفتح منغلقا من خلال الطريقة التي سلكتها الكاتبة في توصيله لنا. إني مع كل الذين يقولون بأن هذا النص لا يعمل على توظيف أواليات الاستغال السردي، ولكني ضد من يقول بأن هذا التوظيف كان غير متعمد. بين الصورة الكلمة ، تكمن كلمة اللغز ، فنحن أمام صورة تحولت بفعل إبداعي إلى نص، وهذه العملية لا يمكن أن تكون سهلة أبدا، إذ كيف يمكن للكلمة أن تعبر دهاليز العالم الداخلي الذي تجسده " صورة " ، إنه العالم المرئي والمخفي في آن واحد . إننا إذ نفسر اعتباطية النص، فنحن نحاول أن ندمره من مناطق تفجره لا من مناطق سكونه . إن فكرة أن تبلور عالمك الماورائي ، فأنت أمام خيارات صعبة، إما أن تبتكر له صورة تحاكيه ، وإما أن تخلق له صورة لا تشبهه تماما، وهذا ما جعل الكاتبة هنا ، تسرف كثيرا في توسيع نطاقات المحتمل ، والممكن من جهة ، والممتنع من جهة أخرى. في هذا النوع من الكتابة ، تقف أمام دهشتين : 1- دهشة اللغة . 2- دهشة الرؤية والتحكم في مناطق العتمة داخلها. إنه نص تأملي ، ونص من هذا النوع لا يطلب أكثر من أن يكون تفسيرا لللاتفسير ، إنه يكوّنُ داخله أزمة إنساننا في بحثه عن سر انقسامه إلى ذوات كثيرة ، ذات ترتفع إلى أعلى وذات تهبط إلى أسفل ، ذات تتجه للأمام وأخرى تتجه للخلف ... إنه سر التكاثر العبثي ، إنها أزمتنا في البحث عن النهايات التي نريد. إن البطل في قصة " قلق المشيئة " بطل إشكالي، إنه حامل لا محمول، إنه يتحمل وحده تأويل وجوده ، يقول "إيزر " الناقد ، : " إذا كان النص لا يتوافر على عناصر مشابهة ، سواء في العالم التجريبي، أو في قدرة القارئ، فإن معناه يجب أن يتأسس انطلاقا مما يمنحه هو نفسه " . إن موقف الكاتبة من عالمها الخارجي هو ما استطاعت أن تجعله عالما داخليا من خلال عمليات استنزاف لطاقات " المونولوج " الواعي إن صحت الكلمة ، لذا وجب علينا كمتلقين أن نقرأ النص بصيغة إدماجية بين العالمين، ربما نصل إلى حقيقة التوتر التي انشحن بها هذا البطل المتشظي في الصورة واللغة. إن ما يجعل لهذا النص مكانا فريدا بين سنن الكتابة أنه استطاع أن يجعل من عبثية الشكل نظاما خاصا، أوجدته الكاتبة عبر أنساق لغوية ، وإن كانت مسرفة أو متناصة ، فهي تمثل اللعبة الأساس التي تمكنت من تعرية كل أفكار أبطالها المتخيليين أو الحقيقيين، وقبل ذلك هي كانت في مهمة شاقة مع تعرية الصورة وبث الصوت فيها ، بطريقة تجعلنا نرى ما لا تراه .. كل الشكر والتقدير للكاتبة على مشاركتها القيمة في هذه المسابقة ، ولكل من يعبرون هنا ..تحياتي لكم جميعا .. عبدالجبار علي ..

الأحد، 6 سبتمبر 2009

:: قلق المشيئة ::


قلــــق المشيئة


الفيلم المُشارك به





النصّ
الفائز بالمركز الثالث في مسابقة سينما سرد للمتكأ الثقافي

قلق المشيئة
كيف أرمي صوتاً في دوامة الصدى ، وقد خضبته جلاميد الترقب والتروي ؟كيف أجدد هديراً عائداً إلى خواء ذاتي الفسيحة التي أكلها اليأس وطحنتها السنون ولونها الصدأ ؟أستلّ أيامي من جعبةٍ مزقتها شظايا حروب الأمس ، أرتبها لعنةً بلعنة ، أجمعها مثل ما يجمع النهر أطيانه ، أستلها يوماً بيوم وأعيد تلوينها بنفس الألوان الباهتة ، أعيد ترتيبها يومًا بيومٍ في أكثر الزوايا الاختباء مني ، أبحث من بين حقائبها الرمادية عن يومٍ لا تمازجه دمعة ولا يلونه ذبول ، أشتهي أن أشرب من مائها الذكرى رغم عوالق طحلب التيه فيه ، أشتهي أن أشم رائحة الرمضاء رغم العتمة التي تسطو عليها بلون القلق ، ثم أحصي خساراتي بها وألملم بقاياي حزنًا بحزن، قلقًا بقلق وأعيد لها بعثرتها من جديد ، تماماً كأنا . تسعون حُزناً وأنا جاثم في رحمها العقيم بلا حراك ، تسعون قرناً و الجاذبية تحاول أن ترفضني من سطوتها وترميني نفثه حسرة من فم ينفث النبض نبض الهلاك . تسعون لوناً يا أمي ، تسعون مهداً يا أمي ، تسعون قلقاً يا أمي ، ولا أزال أنا كما أنا ، ابنك العاق من رحمٍ عقيم ، يلوذ ويصمت ، يصمت فيتكسر وينثر أشلاءه عبر الأثير رذاذًا بائسًا يصّب في مضمار الشقاء بطعم القلق وبلون الحزن ، ينام ويصحو على أملٍ ويأس ويظمأ ويروى بذات الكأس . إحباطٌ كونيٌ متكرر ، أو أنها حقيقة اللعن الأحمر . تلك حقيقة ، أجل هي حقيقة ، هكذا تسير الأمور ، دون إدراك مسبق أو تعداد باليقين ، دون إرادة أو تخطيط ، تتدرج وتنثني ، تتشابك وتتداخل ، تنمو وتتعاظم ، تجدل نفسها كضفائر في شعر بدائي مجعد ، يخمش الوجنات ، ويجرح الخدود فينزل منه التعب برائحة الدم ، يحفر في قسماته أخاديد ما قبل التكوين ويكسر المجازات كمرايا خائنة ، ويشق في عتمة الضوء تضاريس بعمق الأفق بقدر ما تشهده الغيمات من ارتعاشات رأد الضحى ، فيولد الحزن كنورسٍ قلق من غياهب أقصى العدم الممتد أمام البصيرة .حين أكون شيء أو لا أكون ، فأنا في النهاية أصل لكل الأشياء الممتهنة قديماً ومستقبلاً ، وبين الثنايا الرطبة يسبح حاضري بشيء من القلق ، هذا المبدأ أثكلني بعثرة على رمضاء الماضي ، ضيعت كل تفاصيل حياتي . عثرة مزروعة أمامي مثل تمثال روماني قديم ، يحمل صمته أكثر من ألف قرن مضى وفي ذاكرته تتعاقب الأجيال تلو الأخرى ، وجدتني فيما بينهم مزروعًا في بيضة نسل عتمة متقهقراً على ظهري . نهضت متألماً إيذاناً بالحياة وفي جبيني تتشاطر الحكايا وتتوالد نوارس القلق بألف فكرة وفكرة وأنا أقاوم البكاء الذي يلوي شفتي ، ويمزقني إلى قطعٍ متساوية لكائن عبثي في مشج مخنوق ، عرفت فيما بعد أنه أنا الذي لا يشبهني . كائنٌ له رأس ولسانان وجبهتان في أُم عقله وعينٌ واحدة ليبقى الحبل السرّي بيني وبينه محطة اتصاله بالعالم الخارجي .كالجنين ، أو هو أكثر من ذلك يتغذى من فضائلي الإنسانية وأخرى قد يتقيأ من سموم قاتلة تجبرني أحياناً أن أخوض معتركها . وفي لحظة لا تشبه أخواتها من الجنون قرر أن يفرزني من أقصى دماء القدر مع الخلايا المشرئبة بالعقر ويستثنيني مع لوح محفوظ لم يُرفع القلم عنه بعد ، وعلى أن يفتح لي قبراً بحديقة تاهت في ليلة ضبابيّة وعلى أن يسهر الذهول في رعشته بالخرس ، بعدها خيرني بين الهوى والهاوية ثم خط لي متسعاً للهروب وخطة ساخنة حمراء قانية وخلوة لقاء ، وزورق حلم صغير ، يعبر بيّ كـ كريستوفر كولومبس في محيطات عدة، أو كأسترالي قديم أستيقظ من حلمه ليجد العالم قد أنتقل إلى قارته وإن تشنغ خه مكتشف أمريكا، وليس كولومبس! لأضع خطوتي الأولى في أرض الموت الصغرى . كل صباحٍ أستيقظ فيه وأنا على قيد القلق ، وفي رأسي تدور ارتعاشات لجرادات أضغاث الأحلام وبقية إرهاق من حبة نوم متأخرة . هذا الجراد الذي يفترس فُتات الأحلام ويرميه على شاطئ الذاكرة كقلاع الرمال الهشة ، فما تستكين أو تهدأ إلا لتعود كطوفان حاقد يجرف أمامه كل أشجار القلق وكل ما بنته أيادي الأمل الصغيرة ، ويعيد تسوية رمال الشاطئ من جديد كما كان .تبرحني الأحلام كاستكانة ألم لا تهدأ كُلما حاولت الإغفال عنها ، تجتاحني ككتيبة جيوش جائرة . ذاكرتي منها موبوءة ومريرة مثل تواريخ البلاد التعيسة . أذكره جيداً ، أذكر ملامحه التي تخدش في وجهي أخاديدَ تتراقص كقالب صمت يبردُ تارة ويسخن أخرى . أذكر رائحته النتنة في تدوير الزوايا الأكثر اختباءً منه . هل أبدأ من نطفة الحُلّم . أم من مصرعه ؟ ولدت كلوحة خرساء ، وأخذت أرقى في عالم المجازات ، أطلب من فأس القدر أن يثقب في ملامحي حقل ابتسامه ، ولكنه أبى أن يحرث فرحة في أرض أدمنت سنيَّ القحط وسنابل اليأس الصفراء ، وأخذ على أن يزرع في روضتي القاحلة ألغام القلق ، وسنابل الحيرة والألم . بيد أن هذهِ المواسم الخصبة على مدار العام ، تشعرني بالإحباط ، وكثرة السنابل تزرع في مفهومي معنى العقم الذي ولد معي ، فكبرنا معاً ، إلا أنني رحت أتصفح في وجوههم على عجل ، كانت ملامحهم موزعة على أقطاب الأرض في تنوعٍ جيولوجي عجيب . فأخذت أبحث عن ذرة ذاتي بين حبات الرملّ العديدة ولكنني لم أحظ بشيء . رحتُ أنقر سطح جبيني ، وأقلّب بصري في وجوه العابرين جواري ، وأتساءل وأنا ألمح ملامحهم المثبتة على حالة تذمر مشتركة ؛ تُرى ما الذي يستعجلون حدوثه في هذهِ الذوّات الصحراوية ؟ ستمرّ الليلة ، وتأتي أُخرى شبيهةً جداً بسابقتها ، فليس ثمة رحمٌ أكثر إنتاجاً للتوائم المتشابهة في الأجنة ، فلأي شيء يجعلنا نسبق الزمن لنبلغ اليوم الذي يليه إذن ؟وفجأة ، رأيتني أنا ، أجل أجل رأيتني أنا الذي لا يشبهني برغبة واحدة وزمن واحد يمتد من أمام قدمي ، يستحثني على الركض لقياس سرعتي حاملاً فوق ظهري عمري وأنطلق ، أنطلق ملتهماً المسافات ، حينها فكرت في قانون آينشتاين وماذا لو يراني الآن ، ألم يتوصل فعلاً إلى قانون الحياة الذي يربط بين السرعة والعمر ؟ ها أنا ذا أركض لأبلغ المجازات ملتهماً سنيّ عمري يوماً بعد يوم لكل أربع وعشرين ساعة ! أقطع الشارع من أوله إلى أخره ، وأخرج منه بثقل على ظهري وإحباط ! وفي محطة تفقس من أبوابها مسالك التيّـه ، تصلبت كشجرة حور عملاقة أصلها ثابت في أرض الواقع وفرعها ممتد في فضاء الخيال ، كنت ألهث قلقاً وحزنًا، رحت أنقر سطح جبيني بفكرة وأخرى حتى استقريت عند عتبة إحداهن كالمشدوه أمام عجوز ثكلى ، لعبت أيدي القدر في وجهها كالصلصال ورسمت في ملامحه أخاديد أرض في زمن اليأس ، أستمع لما حصل لأسلافي منذ أكثر من ألف قرن مضى ، وفي جعبتي يرقص القلق ، الإحباط والحيرة كجماعات الغجر ، حتى أيقنت فعلاً أن ما أفعله الآن يحتاج إلى استشارة واعية ،فكرت ملياً و رحت أستشير بعض أصابعي ، كان الإبهام موافقاً ، لكن السبابة حذرتني توجساً .حدث هذا في اليد اليمنى، أما أصابع اليسرى فقد كانت منشغلة في نقر الجبين والبحث عن فكرة أكثر جدوى . راقت لي فكرة الانقسام ، بعدما تشعبت الطرق والأزمنة أمامي وصار كل واحد فيهم مخضب بالوعورة والأسئلة، هنالك في تلك الأبعاد، حيث القمم والكهوف الموحشة، ألغاز ومفاجآت برائحة النخيل ، تراود العشب في اللوحة عن نفسه ، فيدلق خضرته على الحائط كجرح طويل ، يكبر ويكبر في خلايا الجدار حتى يتناسل بشتى ألوان القلق . يعتق في رحمه خطوط واهية تحمل تفسيرات العقم العبثي ، يتحرك حسب الأوامر، ويملأ الفراغات، يراوغ أو يتمرغ...لكن البيادق الصديقة قد تتآمر عليه، تغار منه، تضعه دائما في المقدمة، وحين يفرح بدور القيادة والريادة، يجد نفسه في مواجهة بيادق أخرى أشد عنفاً ولؤماً، خطأ بسيط، حركة خاطئة واحدة، ويطردونه خارج اللعبة، ينتفي ويتبخر، في حين يأخذ أقرب البيادق إليه مكانه، يرث مملكة أوهامه وكل ما باع نفسه لأجله، فليعدل عن دور البيدق سيكون أضخم وأهم ، فليكن فيلا، سوف يحمل الكثير على كتفيه، ولن يحس بأي ثقل، يمضي بطيئا ولكنه يصل في النهاية، إلى أين، الفيل لا يهتم بهذه الجزئيات الخفيفة، المهم أن خطوه الثقيل سيوصله إلى مكان ما ، ربما حيث يفاجئه فأر ، إنها مشكلة الفيل ، أنه يخاف من جزيء صغير لا تكاد تراه عين الطبيعة .مشكلة الفيل فأر، ومشكلة البيدق ثأر ، ماذا لو انتقم منه كل من له ثأر بأحد البيادق المتناثرة على الرقع هنا أو هناك ، أو من يكره البيدق لمجرد أنه بيدق ، إن هذا يجعله أكثر إصرارا على رفض دور البيدق . سيكون رجل القلعة الأول ، منيعاً قوياً ، بأبواب ضخمة، وقصور فخمة، لكنه يخشى الوحدة والصمت، وإن رحل عنه ساكنوه استوطنته الغربان والأفاعي وعوت الريح في جوفه، إنه حقا يخشى البرد ، ويخاف كوابيس الليل ، أما إن هاجمه جيش ما ، فكرة أو إحساس غامض، وحاصرته الجحافل ورمته بالمنجنيق، ستكون الحرب رهيبة وستندك جدرانه، ربما أن حراس أركانه سيستميتون في الدفاع عن قلعتهم، وسيسكبون الزيت المغلي على الجراد . ستتضاعف انقساماتهم مثنى وثلاث ورباع ، وستتعدد الرغبات وستنثني أمام القامة الإنسانية تماماً كطفلة عنيدة ، المجنونة العاقلة في آن ، الوحشية المتحضرة في زمن يسرق خبز التعدد بالوسوسات ، الغامضة حتى الوضوح في العتمة ، أدعوها إلى الشاي ، فتدعوني إلى القلق ، أدعوها إلى الحب ، فتدعوني إلى عطلة نركض فيها إلى المساء في الريح والمطر . ياللتعاسة ، أشعر أنها تصرفت بي مثل يويو فتأرجحت حياتي كلها على إصبعٍ واحد من أصابع القلق الموحل في تقويمي التعيس . كل وريد فيّ محشوٌ قلقاً يطرد روحه خارجاً ويعكره ارتعاش الذاكرة ، فتراني أتوجس خوفاً من صمت الحزن الذي يصغي إلى حفيف أفكاري وأركض ، أركض بنصف عقل ، بنصف يد ، بنصف قلق ، وبنصف لغة بعدما تركتني الأنصاف الأخرى من أجل حياة أكثر إنسانية ، وأضل أركض ، حاملاً عمري فوق ظهري وأنطلق . أنطلق في مضمار أنيق يبدو بلا نهاية، تتزاحم فيه الأضداد فُرادى تنفني نهاياته الأزلية بباب متحرر من سطوة القهر ، يعلوني وأنا أمشي من تحته مثل مومس صغيرة ، أدخله بألف لعنة ، وبألف لغة ، وبألف قلق و بأكثر من ألف نية تخالجني كإغماءة لامبالاة ، فأعزلُ نفسي عن كل ما يحيطني واندثرُ بالصمتِ ولا أقل . وأفكر ، أفكر في هذا التغيير الفلكي الضخم الذي يقترب من حياتي فيقلبها خارج حدود المألوف عقباً على رأس ، ويبقى عقلي في حالة متيقظة من التفكير تجعلني آكل بشهيّـة الحانق دون اشتهاءٍ نصف الجلد الميت فوق أظافري . وفي نهاية المضمار ، تصطلب أمامي شفرات عنيدة تحمل صمتها لأكثر من ألف قرن مضى في حقائب سقطت سهواً مع أوراق التقويم ، تحمل في قمصانها المهترئة غثيانًا فكريًّا لا معنى له وذاكرة وعرة ، تتجعد فيها المسالك كوجه عجوز حزينة عبثت فيها أيدي القدر كالصلصال وقوستها على شكل مذنب إشعاعه خامد ، يحمل في كفه تنبؤات عراف قديم لم يكتحل بالصلاة بعد ، عرافٍ نازل على جبين معبد مهجور ، ليحكي قصة البحار القديم الذي لم يرى البحر يوماً ، و قصة مدينة الدموع التي لم تبكِ يوماً ، وفي خطوط كفه تتوالد الطبيعة وتجري المياه وتعيد الحياة دورتها الشمسية الجديدة . ثم تهديني المشيئة إلى حقيبة تنتهي إليها أمصار العالم ، وفيها تتوالد أقدار الناس وتتناسل في رحم سنبلة عقيم ، فترقى إليَّ المجازات وترتخي إليّ السُبل المعقدة لأنطلق ، حاملاً عمري فوق ظهري وأنطلق ! ، أنطلق مع قلق المشيئة الذي يراودني وفي كفي يحتمي خبز التعاسة وماء الأمل . و بين موتٍ ما وميلادٍ جديد أراني أنطلق مع نبرة الحلم التي تقفز كوكباً فوق كوكب . أراني أختصر عمري وقرون أسلافي في حقيبة سوداء وأنطلق . بحثاً عن منتجع احتواء و أمان ، وأبقى في مرافعة الحُزن الذي نبت مع الحواس الخمس كحاسة أخرى تتولى المهام المفاجئة . دُمى يحركها الشقاء !كل الأقدار تتدحرج أمام أقدامهم صدفة ، تتسكع أمامهم مثل المومسات الرخيصات، ترافق خطواتهن نحو المجهول الُمنتظر ، إنهم لا يجدون مشقة في استخلاص الحكمة من مآسيهم ، ولكنهم لا يفهمون أنفسهم ولا يملكون أحياناً تفسيراً لاستيقاظهم كل صباح إلا كونهم مازالوا أحياء . فتمر الأيام علينا كدهشة المرايا ، فترانا نعكس أرواحنا الموحلة في غياهب العتمة على ملامح موحدة وصور حالة تذمر متشابهة . نتناسخ وننقسم، فتتعدد أمامنا الرغبات ، وتتدحرج من أمامنا الحياة ككرة ملعب وننطلق ، ننطلق في جماعات حيوانية اجتماعية ، تبحث عن الماء ، و المرعى ودورة عمر جديدة ! ندخل العقم العبثي ، من أبواب زنزانة معتمة ، والمنارات تعلونا همماً وشأناً ، تبحث عنا كجرذان ضالة ، وتبقى ملامحنا متشابهة على صفحة مرآة واحدة تواسيني وتنسج معي غطاء لعورة حلمي ، أتدفأ به عندما ينخر الحزن عظامي وتحك عصى الذكرى صخرة الذاكرة فتخرج من تحتها عقارب وحشرات الوساوس لـتسرق من فمي خبز التعدد وتبصقه حولي . رأيتني اتكأ على لوح العجز بعد رحلة غرق طويلة ، ورسمت ذاكرتي على السقف وليّ عينان دامعتان تلد من مخاضهما نوارس قلقة تمتطي صهوة الحزن وتنطلق . أجلْ، إنه الحزن والقلق ، الثنائي الثوري القديم ، قدم التكوين ، المنعجن بطينة الإنسان الأول ، الفصيح بلغة الأم العقر ، البسيط البدائي في اكتشاف نار العتمة ، والغنائي الراقص مثل جماعات الغجر ! تتشعب أخرى ، كحشائش شيطانية غاوية ، تغري بكل الغوايات وتلقيني أنا المسكين طافياً على يم نكبتي ، في جزيرة العقر السوداوية ، حتى أمواجها المسكينة ترتدي ثوب العزاء كعذراء حزينة ، لم يلجها غواص بعد بقارب ، وتنشد آية الحزن الأبدي . قسمة ضيزى ، وإلحادٌ صغير لا أعرف سببًا لنشوئه ، هناك على الضفة الأخرى ، تخرج انقساماتي لترى تحقق الرغبات ، وهل فعلاً أجاد قسيس الكنيسة في تلبية الرغبات ؟ ، لأجد شاكلة من الوجوه الشاحبة على قوارع الطريق ، و وجوه لم يزرها الرضا تعيش منذ سنوات في المنفى وفي أعصاب عيونهم اليائسة يتبرزخ الحزن القرمزي بطعم القلق ، يفهمون الحياة على أنها حدان متناقضان إما نافورة ماء أو بركة دماء . كم هم فائضون عن الحاجة هؤلاء الأشخاص يدورون على سواقي الوهم ، يصيروّن صدأ أحلامهم ويحركون بألسنتهم مرارة العدم الذي يعيشون فيه. أجد رغبة الحب التي تفرعت فيََّ ونبتت في يدي كإصبع سادس له سمة ما ، في حذاء سندريلا الضائع ، وحلمي الضائع ، وحزني الضائع ، وعمري الضائع وكل ما فيّ يشهد على أن ثمة ارتباطًا قديمًا بين حزني وأسطورة سندريلا الضائعة . أذهب للقياه فتصغر إنسانيتي أمامه وكأنه أفضل مني حالاً وإنسانية ، أحاول قضمه كأنثى لا تشبها شائبة القضم فيها بقدر ما هي وسيلة للعري والخُزي لإنسانيتي المهترئة . أقضمها ولا تكاد تمضغ أحاول من زاوية أخرى طعمها كالإسفنج ، بل القماش ، ألوكها حتى استيقظت آه أنها وسادتي تعتاد مراودتي تلك كل ليله .. لأعانق ثوبي من جديد وانطلق . نخرج منها ، نخرج منها كأهداف من شباك المرمى ، ينتهي المؤقت العُمري ، فنسقط صرعى ، ويبقى هناك فائز واحد لا شريك له ، ينطلق في مستقبله المجهول ومن خلفه يشرق الماضي ، وفي يديه يحمل أمجاد أسلافه وثار صعيدي قديم ، يرقى به إلى عالم أخر ، ترتخي أمامه المحظورات ، وتنحي من أجله المبادئ والقيم , ويبقى حلمه البكر الذي يحتفي به بشمعة وحيدة ونهر مشاكس ، تفلّت شياطين الفكر فّيه ناطقةً ببحرٍ أعوجَ أهوج ، مكسور الخاطر لا قعر له ولا مرسى ، يحرض الأشياء في غرفته دائما على العصيان أو الغرق ، ويبقى السؤال .هل فعلاً أنتصر ! وقام بقضمها كما تقول الأسطورة ، أم بقى معلقاً على بابها كتعويذة خروج وصلواتٍ على مذبحٍ من خيط نور!

الخميس، 13 أغسطس 2009

مذكرات ميت..!


قد تتقلّص النوايا وتنكمش ، أمرٌ مُحيّر فعلاً ولكن معيّ قد يبدو أكثر غرابةً ودهشة ، إذ أنني أشعر بأن لذاتي لوّن ، طعم ورائحة تختلف عن أكثريتهم ولهذا لا أجد أمامي إلا أن أحمل أدوات الأسئلة الأخرى التي تحتويني وأركض بها في مضمارٍ أنيق يبدو بلا نهاية ، تتزاحم فيه الأضداد فُرادى ، لا يُقاسمني إياه راكضٌ أخر، أعيش اللحظة ذاتها ، وأحتسي نخبها لوحدي ، دون أدنى طقوس الرقص التي تقفز بها جماعات الغجر على أطراف ذاتي.

لغاية لم أتحقق منها ، وربما لم يتحقق منها جلُّ من ركب ذاك القطار ، راحلون جميعاً كُلنا ، راحلون إلى ما لم ندركه يقينا ، كل ما أردته حينها هو زيارة تلك الأرض ، غازيٌ كُنت أم أسيّر لا يهم ، سأزورها ، هنا تكمن إرادتي العتيدة ، أم أنني أدمنت عناد نفسي؟ لا يهم ، ففي كل أحوال الألم ، الحيرة ، الحنق ، الهزيمة ستتقنَّعُ تلك النفس أمامي بالعزة ، سأصارعها وتصارعني ، ستنتهي معاركنا أو لا تنتهي ، ولن ندرك أبدا من منا الفرس ومن السائس.في القطار زحام وضباب ، أحداث وأحاديث وشخير ولهاث ، حتى أنني لم أعد أذكر على فخذي من نشأت ، ولا أذكر على يد مَن مِن الفرسان نلتُ تدريبي ، لكنهم جميعا صاغوا بعيونهم ووصاياهم طريقي . في محطة لم يتوقف عندها القطار اتسع لي المكان ، تقاعد المدربون ، واتخذتُ مجلسي المستقل قرب الممر، حينها وصلتني أنفاس دافئة ، لطيفة ، كنتُ مكلف بمراقبة الطريق ، ورغم ذلك ملكتني تلك الأنفاس بعنفوانها المتصل ، ضغطت على مخيلتي وهي تتحول من الدفء للسخونة ، وحينما وجَدَ العبث طريقه إلى مداركي ، لازمني القلق .

أنا الآن ميت تماماً، أكاتبكم من تحت ركام القبر ، أعترف لكم بأنني أذنبت كثيراً لكنني لا أستحق أن أموت في هذا الوقت وبهذهِ الحادثة العنيفة، أنا لم أكن عنيفا..انظروا إلى الصورة .ستقرئون في عيني البراءة ، ستدركون من خلال الملامح ، أنني ما زلت أطمح للحياة ، وأنني حاقد على تلك اللحظة الخاطئة التي اختطفتني من بينكم ،..لو كنت أعلم من قبل أن نهايتي ستكون هكذا..ما هيأت نفسي للخروج من البيت،..وما فكرت في تلك المشئومة التي تراءت لي في المنام ،..
ذات ليلة ، جلست مابين الفُراقِ والنَزق ؛ أحتضن شتات جسدي المُندثق مع امتشاق الفجر المُظلم ، أملئ فضاء الورق بكلماتٍ عذارى ، تتراقص بين السطور في إختيالٍ مُحبب تصطفيني لئِلا أفقد الأمل في الكتابة ، تُعلمني كيف أكتبُ نفسي وأرسلها للذوّات الأخرى في نسقٍ جميلٌ و هادئ.
تُعلمني أن أكتب شيئاً ما أكبر من ذاتي ، لا يمكنني أن أحده بسطور أو أن أسجنه بين قفا الكلمات ، له رأس ولسانين وجبهتين في أُم عقله وعينٌ واحدة ليبقى الحبل السرّي بيني وبينه محطة اتصاله بالعالم الخارجي.
كالجنين ، أو هو أكثر من ذلك يتغذى من فضائلي الإنسانية وأخرى قد يتقيأ من سموم قاتلة تجبرني أحياناً أن أخوض معتركها .
هذهِ المرة سأكتب بنيّاتٍ متعددة ، فلم يبقَ معي من زاد الكتابة إلا النزرّ اليسير ، نصف عقل ، نصف يد ، نصف لغة بعدما تركتني الأنصاف الأخرى أتمرغ بألمي وحزني معاً . وحتى قلمي قد ذاقَ المُرّ من السيناريو القبيح ذاته . الآن وقد فهمت المغزى ، سأكتب من أجلّ حياة أكثر جدوى و بقلم أبيّض يكسو حبره نقاء ، ذو خطٌ رفيع لـ يبقى شاهدٍ بيني وبينه في زمن دُنس بالخطيئة .

أعلّم..أعلّم بأنني أبدو كأخرق مُشتت ، ولكن دعوني أكمل..أتوق أحياناً لممارسة طقوساً لا تبدو في العادة مفيدة ولا حتى ترضيني ولكنني أفعلها تلبيةً لنداء العقل ، ولا خيار أمامي وأنا قد تجردّت من أنصافي تلك وعشت بالأخرى إلا ما أفعله الآن ، دون أن أنقلب على نفسي انقلاباً لا أستطيع توقع نتائجه . وعليّ أن أتحمّل قليلاً من تعاسة اختيار أوقات غير لائقة للجنس في مزرعة شمالية ، ونهاراً .
لا توجد رائحةٌ تفوح من الجبين لتخبر الناس بأني نبيل ، وأستحق الوصال ، ولهذا لا يعنني الأمر منذ سنوات . طالما أني أيقنت وبالإيمان الكامل بقناعة الرضى عن النفس ، فلا يوجد فرقٌ بين امرأة تأتي مجرورة بأذيال واهيّـة كقناع النُبل على وجهي ، وأخرى لـ ترضى ذاتِها الإنسانية المُجردة إذ إن في كِلا الحالتين ستؤديان الأغراض الجسدية ذاتها بل أن الأخرى تستطيع بأناملها الذكيّـة أن تجسّ وقع اضطرابي وأن تُكلم جسدي بلغةٍ أفصح ، من دون أن تتلعثم بأخلاقها المفترضة .

عرفت تدريجياً أن للجسد حالة فيزيائية ، وللنيات في القلوب يدَّ تتربصّ لتوق الكمال المُطلق ، وهذهِ المساحـة الحرّة التي تُركن في غياهب زاوية ملعونة في عقلي ، ترغمني على الزيّغ في الرُجم أكثر والمبادرة في التساميّ للوصول إلى ذروة الكاهلِ الأعبل ، والأخذ بناصيّتنا إلى طريقٍ لا شريك لنا فيه سِواه ، إنهُ العبث.! وما إذ إنهُ القانون الأكبر الذي يحكم الحياة.
كُلّ شيئاً فيَّ ، يتحفز إلى خارج حدود الذات وفوق الشرع وضد التقاليد ، أجدني خانعاً أمام كُلّ حالات الذاكرة ، نازعاً للبُكاءِ والحنين والجنس ، مثل عازف ضائع . أبحثُ عن مأوى ، وعن موقد ، وعن إصغاء ، وعن أحلام تخليتُ عنها منذ زمن طويل . هكذا يجعلني الشتاء أتوهم أني أملك جذوراً وأعرف أين أقف ، وأجدني في يومه الأول ، غصناً يتبنَاه الرصيف والريح معاً.
وقفتُ ذات يوم ، وعلى مُفترق طُرق من الحياة ، كقشة في مهبّ الريح ، أبحث بين طيّات اللاشيء ، وفي فضاء اللامتناهي ، عن ذرة ذاتي بين حبات الرملّ العديدة ولكنني لم أحظى بشيء . رحتُ أنقر سطح جبيني ، وأقلّب بصري في وجوه العابرين جواري ، وأتساءل وأنا ألمح ملامحهم المثبتة على حالة تذمر مشتركة ؛ تُرى ما الذي يستعجلون حدوثه في هذهِ الذوّات الصحراوية ؟ ستمرّ الليلة ، وتأتي أُخرى شبيهةٌ جداً بسابقتها ، فليس ثمة رحمٌ أكثر إنتاجاً للتوائم المتشابهة في الأجنة ، فلأي شيء يجعلنا نسبق الزمن لنبلغ اليوم الذي يليه إذن؟

كم يوجعنا الشتاء !
ولاسيما معي أنا ، شيء في رائحة الهواء يدقُ في قلبي أجراساً ضعيفة لأبواب لا أفتحها كثيراً إلا في الشتاء ، منذ أول يومٍ يُعلن فيه سُعالي ابتداء الفصل الرمادي مثل ديك الفجر ، أشرّع في العودة إلى الدفاتر الأولى . وإلى التنقيب بين سطور الفصلّ الأول عن الأرقام العتيقة ، وأستجدي الهفوات من النساء القريبات مني ، ليقاسماني الفراش تحت مظلةٍ سوداء وكعادتها كلماتي نفسها في كُلّ شتاءٍ سابق " تجتاحني نوبة حب ، تماماً كنوبة الربو ، فعودي مؤقتاً ، وساعديني "

تتراقصّ الذكريات على سطح ذاكرتي ، كلّما حاولت الإغفال عنها . أفكارٌ رجيمة ، تُصبّ في عقلي من ميزاب شيطانٍ رجيم ، ذاكرتي منه موبوءة ومريرة ، مثل تواريخ البلاد التعيسة ، أذكر يوماً حينما كُنت أتسوّق في أكثر المكتبات ازدحاماً ، وأكثرها وفرة لفرصيّ أشعلت سيجارتي ووضعتها على إحدى الرفوف الخشبية ، و سابقت نفسي أجرّ أذيال الخيبة خارج المكان ، بعدما رفضتني إحداهن متلعثمة بأخلاقها المتحزمة ، ولحظتُ كيف يُعانق الدخان أفاق السماء بكلتا ذراعيه ، يشكوني لبارئه ، وبقلبٍ كقالب الثلج أدرتُ مقوّد السيارة خارج حدود القوس وأنا أتلعثم بالجنون !

استكانت جوارحي وأنا أسرح في خيالي مستحضر صور حياتي وأسرّي في قيد العبودية ، عبودية إنسانيتي وامتهان كرامتي وإذلالي بالشكل الرهيب الذي عشته ، أحسستُ أن للشيطان الذي بداخلي مآرب أخرى ، لا تقضي على من هم حولي فقط ، وإنما هو يسعى لأن يدمر حياتي بأكملها ويجعلني أن أعيش المرارتين في الدنيا و الآخرة .

غربال قاس ، بنبرته وضوحاً لا أفقه منهُ شيئاً ، أو أنني أفقه ولكن أبتعد عن التعمق في التفسير لنفسي أكثر لئلا أتعثر في الظلام وأسقط في هاوية لامحيص منها .
أحياناً أفكر في عاداتي المُسبقة تلك ، وأفكر بماذا لو أعدت تكرارها مجدداً ، أذكر يوماً بأنني خبأت المناقصة التي كانت موكلة لزميلي منصور في سلة المهملات كضرباً بإدبار القدر ، لم أكشف عنها إلا عندما انتهى موعد تسليمها للجهة المسئولة ، حينها قِيّل منصور من وظيفته بتهمة الإهمال.
أكتم في صدري هاجساً يؤرقني كثيراً ، في طفولتي المبكرة أدركت قبح العالم ، حينما صعدت إلى أعلى أغصان شجرة توت ، والتي تتدلى أوراقها لتلامس سطح الأرض ، حينها كنت بدائي الفكر،فكرت ملياً بما يمكنني فعله أكثر من بلوغي لهذا الحد ، أردت حينها أن أتحرر أكثر من سطوة القهر ، جربت أن أصعد أكثر فانكسر الغصن ، ووقعت، وامتلأت بالرضوض ، لكني شعرت بروحي تتخفف كثيراً من هذا العسف اليومي .

أتوق أحياناً على ممارسة طقوسٍ تبدو بالعادة غريبة ، أقفل عينايَّ لكي أستكشف النجوم التي لا أراها إلا عندما يطفئ الناس أرواحهم .

اندس الشك في قناعاتي من جديد ، واستبدت بي حيرة وذهول من ذاتي التي تفقد مصداقيتها في غضون ثواني من اللحظة ذاتِها ؟! أبهذهِ السرعة تتغير النفوس ؟! وأين المبادىء والقيم ؟ أكلها سراب دخان يذهب أدراج الرياح ؟ تساؤلات كثيرة تضج في رأسي أتعبت قواي ، أنهكت عواطفي ، تركتني مستاءٌ من نفسي ، تفترسني الوساوس ، يعاركني الزمنّ يضج ببكائه العويل على ذاتي ، لِما قسوّتُ على نفسي يا تُرى ! لِما رُجمت بذاتي النقية و أستبدلتها من ملاكٍ طهور إلى شيطانٌ رجيم .
تك تك ..
إنها خطوات أقدام تقترب نحوّي ، أجلّ أجلّ..أكاد ألحظها وأسمعها
هل آن الأوان يا تُرى..في اتخاذ قرارٌ أخر ؟
هل سأعود إلى الديار ثانيةً.؟!
آه ..كم كانت مفجعة تلك الميتة..صار رأسي تحت العجلة الخلفية ..!..كنت أراني كما كنت أراكم في نفس الوقت تتحلقون حولي وتضعون أيديكم على أعينكم ، لا بأس أعلم بأن المشهد مُفزع .أحبائي كادوا أن يغتسلوا بدمي لو لم تمسكوهم ، أمي الوحيدة التي لم تستطع البقاء بينكم ، غادرت وهِيَ تحمل صورتي في قلبها وأنا ما زلت أحملها كاملة فيَّ بما تبقى من رميموقفت في الأخير سيارة بيضاء، ولكنها ليست كمثل تلك التي في المستشفيات، نزل منها فريق ، مكون من عدة أفراد ، أستجمعوني وحملوني إلى مستودع الأموات . ياه كم قساة أولئك الذين يعاشرون الأموات..!أخذوا جثتي ، ورموها بعنف هناك في جهة من غرفة مثلجة ، بعدها جاء فريق آخر ، وقصّ بالمشرط صدري ، أستأصل القلب والشرايين ، ثم أخاطوني وهيئوني للدفن .أنا الآن مرتاح من صخبكم ، وضجيجكم أيها الأحياء
ومِنكِ أنتِ أيضاً ، يا ذاتي الرجيمة !

مساء لا يشبه إلا منال وأحمد \ إهداء عذريّ

كــ مساء الحكايا .. كــ مساء الضوء ؛
تسربلنا على شكل رفقــة من البيّــاض..وأغدقنا الجميع بعطرٍ لا يشبه ذوّيه
أن أنصتوا .
فالأرواح قابلة للاشتعال الآن..وقابلة على الاعتناق في عرسٍ ضبابيّ
فــ كانت النتيجةُ حُلم .. خرج من بوتقّـة الظلام وشاع في قلوبكم رحمة .. لا تغادر أفواهكم
إلا لــ تستوطنها من جديد..
هُنا وحيث الحمام..وحيث البيّــاض الذي يسرّد في الأجنّـة طقوسٌ
ترفض الخضوع إلا لــ تتسامى كـ كائنات وميضه .. تتراقصّ في الأفنيّــة وتشيعّ مسرّة أخرى .. كُنا نرتقبها من سنينٍ طوال . و الآن
بل الليلة..سرقنا خبران في آن ، من وشاية الملائكـة . أعلن فرحةٌ لا تشبه إلا البيّــاض ولا تليق
إلا بــ صفصافة الضوء .
خبرٌ.. يتدلى كــ غصون العنبّ على أطراف البداية في الميلاد..وبسعادةٍ قزحيــّـة قدر النهاية في الابتداء..يرافقها لحنٌ أخر..لحنٌ.. لطالما من قبل ..رادته سواها .
كانت .. هِيَّ الضوء..وكان هو طوق الطهارة الذي أحتضن العشب وهو نديّ..وترجم الألوان على شاكلة أُخرى .. كغيمةٌ مبللة ..ترتعش كرقصات الأنامل على لوحـة فنان
لا تليق إلا بها .
ومن بعضي أسرق نفسي..لأكتب لها أبجدية حروف تاهت ولم تمت
من قال أن الحروف تموت حين تُقال ,’
,’
قطفنا بعض من الأحاديث ، الأكثر أختباءاً منكم
و روادناها على مقلتيّ وأن كانت أكثر من أبي يوسف..
من الدكتور مقداد رحيم .. أنفاس تعطر المكان .